فصل: تفسير الآيات (38- 39):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل



.تفسير الآيات (26- 27):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [26- 27].
{وَلَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} أي: خلقاً وملكاً وتصرفاً: {كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ} أي: منقادون لتصرفه، لا يتأبون عليه: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} أي: بعد موتهم. قال أبو السعود: وتكريره لزيادة التقرير، والتمهيد لما بعده من قوله تعالى: {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} أي: من البدء، أي: بالقياس إلى من يقتضيه معقول المخاطبين؛ لأن من أعاد منهم صنعة شيء، كانت أسهل عليه وأهون من إنشائها، وإلا فهما عليه سبحانه سواء في السهولة.
لطائف:
الأولى- تذكير الضمير، مع رجوعه إلى الإعادة، لما أنها مؤولة بأن يعيد.
الثانية- قال الزمخشري: فإن قلت: لم أخرت الصلة في قوله: {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} وقدمت في قوله: {هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ} [مريم: 9 و21]؟
قلت: هناك قصد الاختصاص، وهو محزّه. فقيل: {هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ} [مريم: 9 و21]، وإن كان مستصعباً عندكم أن يولد بين هم وعاقر، وأما ههنا، فلا معنى للاختصاص كيف؟ والأمر مبني على ما يعقلون، من أن الإعادة أسهل من الابتداء. فلو قدمت الصلة، لتغيّر المعنى.
قال الناصر: كلام نفيس يستحق أن يكتب بذوب التبر، لا بالحبر، وإنما يلقى الاختصاص من تقديم ما حقه أن يؤخر.
الثالثة- قال الزمخشري: فإن قلت ما بال الإعادة استعظمت في قوله: {ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ} [الروم: 25]، حتى كأنها فضلت على قيام السماوات والأرض بأمره، ثم هونت بعد ذلك؟
قلت: الإعادة في نفسها عظيمة، لكنها هونت بالقياس إلى الإنشاء. انتهى.
قال الناصر: إنما يلقي في السؤال تعظيم الإعادة من عطفها بثم إيذاناً بتغاير مرتبتها وعلوّ شأنها. وقوله- في الجواب-: إنها هونت بالنسبة إلى الإنشاء، لا يخلص فن الإعادة ذكرت هاهنا عقيب قيام السماوات والأرض بأمره، وقيامهما ابتداء وإنشاء أعظم من الإعادة، فيلزم تعظيم الإعادة بالنسبة إلى ما عطف عليه من الإنشاء، ويعود الإشكال، والمخلص، والله أعلم، جعْل: {ثُمَّ} على بابها لتراخي الزمان لا لتراخي المراتب، وإن سلم أنها لتراخي المراتب، فعلى أن تكون مرتبة المعطوف عليه العليا، ومرتبة المعطوف هي الدنيا، وذلك نادر في مجيئها لتراخي المراتب، فإن المعطوف حينئذ في أكثر المواضع، أرفع درجة من المعطوف عليه، والله أعلم. انتهى.
وفي حواشي القاضي: إن: ثم، إما لتراخي زمان المعطوف فتكون على حقيقتها، أو لعظم ما في المعطوف من إحياء الموتى، فتكون للتفاوت في الرتبة لا للتراخي الزماني، والمراد عظمه في نفسه، وبالنسبة إلى المعطوف عليه، فلا ينافي قوله: {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} وكونه أعظم من قيام السماء والأرض؛ لأنه المقصود من الإيجاد والإنشاء، وبه استقرار السعداء والأشقياء في الدرجات والدركات، وهو المقصود من خلق الأرض والسماوات. فاندفع اعتراض الناصر بأنه، على تسليمه، مرتبةُ المعطوف عليه هنا هي العليا، مع أن كون المعطوف في مثله أرفع درجة، أكثريٌّ لا كلي، كما صرح به الطيبي هنا. فلا امتناع فيما منعه، وهي فائدة نفيسة، ويجوز حمله على مطلق البعد الشامل للزماني والرتبي كما في شرح الكشاف.
وقوله تعالى: {وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} أي: الوصف الأعلى الذي ليس لغيره ما يدانيه فيهما، كالقدرة العامة والحكمة التامة، وذلك لأنه لما جعل ما ذكر أهون عليه على طريق التمثيل، عقبه بهذا، فكأنه قيل هذا، لتفهم العقول القاصرة أن صفاته عجيبة وقدرته عامة وحكمته تامة، فكل شيء بدءاً وإعادةً وإيجاداً وإعداماً، عنده على حد سواء، ولا مثل له ولا ند.
وقال الزجاج: المراد بالمثل قوله: {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} فاللام فيه للعهد، فحمل المثل على ظاهره، وعلى ما ذكر أولاً، وهو مجاز عن الوصف العجيب، فيشمل القول وغيره مما هو جار على ألسنة الدلائل ولسان كل قائل {وَهُوَ الْعَزِيزُ} أي: الغالب على أمره، الذي لا يعجزه بدء ممكن وإعادته: {الْحَكِيمُ} الذي يجري أفعاله على سنن الحكمة والمصلحة.

.تفسير الآيات (28- 29):

القول في تأويل قوله تعالى: {ضَرَبَ لَكُم مَّثَلاً مِنْ أَنفُسِكُمْ هَل لَّكُم مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن شُرَكَاء فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَاء تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَن يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ} [28- 29].
{ضَرَبَ لَكُم مَّثَلاً} أي: يتبين به بطلان الشرك: {مِنْ أَنفُسِكُمْ} أي: منتزعاً من أحوالها، وهي أقرب الأمور إليكم وأظهر كشفا: {هَل لَّكُم مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم} أي: من العبيد والإماء: {مِّن شُرَكَاء فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ} أي: من الأموال وغيرها: {فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَاء} أي: متساوون في التصرف فيما ذكر من غير مزية: {تَخَافُونَهُمْ} أي: تهابون أن تستبدوا بالتصرف فيه بدون رأيهم، وهو خبر آخر لـ: {أَنْتُمْ}: {كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ} أي: كما يخاف بعضكم بعضاً من الأحرار المساهمين لكم فيما ذكر، والمعنى نفي مضمون ما فصل من الجملة الاستفهامية، أي: لا ترضون بأن يشارككم فيما هو معار لكم، مماليككم، وهم أمثالكم في البشرية، غير مخلوقين لكم، بل لله تعالى، فكيف تشركون به سبحانه في المعبودية، التي هي من خصائصه الذاتية، مخلوقه بل مصنوع مخلوقه، حيث تصنعونه بأيديكم ثم تعبدونه؟ أفاده أبو السعود: {كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ} أي: مثل ذلك التفصيل الواضح، توضح الآيات: {لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ} أي: يقين وبرهان: {فَمَن يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ} أي: سبب صرف اختياره إلى كسبه، أي: لا يقدر على هدايته أحد: {وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ} أي: ينصرونهم من الله، إذا أراد بهم عذاباً.

.تفسير الآيات (30- 32):

القول في تأويل قوله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [30- 32].
{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ} أي: فقوّمه له، واجعله مستقيماً متوجهاً له. وفي النظم الكريم استعارة تمثيلية، بتشبيه المأمور بالتمسك بالدين، ورعاية حقوقه، وعدم مجاوزة حدوده والاهتمام بأموره، بمن أمر بالنظر إلى أمر، وعقد طرفه به، وتسديد نظره وتوجيه وجهه له، لمراعاته والاهتمام بحفظه: {حَنِيفاً} أي: مائلاً عن كل ما سواه إليه. قال المهايمي: ولا يعسر الرجوع إليه لكونه: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} أي: لأن عقل كل واحد يدل على أنه حادث يفتقر إلى محدث، ولا دلالة على الافتقار إلى متعدد أبداً. فالقول بتعدده تغيير للفطرة، لكن: {لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} أي: لا تغيير لأمر العقل الذي خلقه الله للاستدلال: {ذَلِكَ} أي: الدين المأمور بإقامة الوجه له، أو الفطرة: {الدِّينُ الْقَيِّمُ} أي: المستقيم الذي لا عوج فيه. قال المهايمي: وإن لم يقم عند المبدلين دليل على استحالة التعدد، فهذا هو مقتضى الفطرة: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} أي: أنه مقتضى الفطرة، وهي أقطع قاطع وأحسم حاسم لشغب المشاغب؛ لأنها من الأمور التي لا تدخل تحت الكسب والاختيار.
وقوله تعالى: {مُنِيبِينَ إِلَيْهِ} أي: راجعين إليه بالتوبة والإنابة: {وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ} [آل عِمْرَان: 135]، وهو حال من فاعل الزموا، المقدر ناصباً لـ: {فِطْرَةَ} أو من فاعل: {أَقِمْ} على المعنى؛ إذ لم يرد به واحد بعينه، أو لأن الخطاب له صلّى الله عليه وسلم، ولأمته، أو على أنه على حذف المعطوف عليه، أي: أقم أنت وأمتك، والحال من الجميع: {وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ} أي: جعلوه أدياناً مختلفة، لاختلاف أهوائهم: {وَكَانُوا شِيَعاً} أي: فرقاً: {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} أي: كل حزب منهم فرح بمذهبه، مسرور، يحسب باطله حقاً.
قال القاشاني: يعني المفارقين الدينَ الحقيقي، المتفرقين شيعاً مختلفة، كل حزب عند تكدّر الفطرة، وتكاثف الحجاب، يفرح بما يقتضيه استعداده من الحجاب، لكونه مقتضى طبيعة حجابه، فيناسب حاله من الاستعداد العارضي، وإن لم يلائم الحقيقة بحسب الاستعداد، ولهذا يجب به التعذيب عند زوال العارض.
ثم احتج عليهم برجوعهم إليه عند الشدائد، ممايحمل أن يرجع إليه بعبادته دائما، بقوله سبحانه:

.تفسير الآيات (33- 36):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُم مُّنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُم مِّنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ أَمْ أَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ} [33- 36].
{وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ} أي: شدة: {دَعَوْا رَبَّهُم مُّنِيبِينَ إِلَيْهِ} أي: راجعين إليه وحده دون شركائهم: {ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُم مِّنْهُ رَحْمَةً} أي: خلاصاً من تلك الشدة: {إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ} أي: بالسبب الذي آتيناهم الرحمة من أجله، وهو الإنابة، واللام للعاقبة. وقيل: للأمر التهديدي، كقوله تعالى: {فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} أي: عاقبة تمتعكم ووباله.
{أَمْ أَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً} أي: حجة واضحة قاهرة: {فَهُوَ يَتَكَلَّمُ} أي: تكلم دلالة، كما في قوله تعالى: {هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ} [الجاثية: 29]، {بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ} أي: بإشراكهم، وهذا استفهام إنكار، أي: لم يكن شيء من ذلك: {وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً} أي: نعمة من صحة وسعة: {فَرِحُوا بِهَا} أي: بطراً وفخراً، لا حمداً وشكراً: {وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ} أي: شدة: {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} أي: من المعاصي والآثام: {إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ} أي: ييأسون من روح الله قال: هذا إنكار على الْإِنْسَاْن من حيث هو، إلا من عصمه الله تعالى ووفقه، فإن الْإِنْسَاْن إذا أصابته نعمة بطر، وقال: {ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ} [هود: 10]، أي: يفرح في نفسه، يفخر على غيره، وإذا أصابته شدة قنط، وأيس أن يحصّل بعد ذلك خير بالكلية قال الله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [هود: 11]، أي: صبروا في الضراء وعملوا الصالحات في الرخاء، كما ثبت في الصحيح: «عجبا للمؤمن، لا يقضي الله له قضاء إلا كان خيراً له، إن أصابته سراء شكر، فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر، فكان خيراً له».

.تفسير الآية رقم (37):

القول في تأويل قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [37].
{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} قال الزمخشري: أنكر عليهم بأنهم قد عملوا أنه هو الباسط القابض، فما لهم يقنطون من رحمته، وما لهم لا يرجعون إليه تائبين من المعاصي التي عوقبوا بالشدة من أجلها، حتى يعيد إليهم رحمته؟
ولما بين تعالى أن السيئة أصابتهم بما قدمت أيديهم، أتبعه ذكرَ ما يجب أن يفعل، وما يجب أن يترك، بقوله:

.تفسير الآيات (38- 39):

القول في تأويل قوله تعالى: {فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَا آتَيْتُم مِّن رِّباً لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِندَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُم مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} [38- 39].
{فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ} أي: من البر والصلة، واستدل به أبو حنيفة رحمه الله على وجوب النفقة للمحارم إذا كانوا محتاجين عاجزين عن الكسب؛ لأن آتِ: أمر للوجوب. والظاهر من: الحق، بقرينة ما قبله أنه ماليّ، وهو استدلال متين: {وَالْمِسْكِينَ} وهو الذي لا شيء له ينفق عليه، أو له شيء لا يقوم بكفايته: {وَابْنَ السَّبِيلِ} أي: السائل فيه، والذي انقطع به، وحقهما هو نصيبهما من الصدقة والمواساة: {ذَلِكَ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ} أي: النظر إليه يوم القيامة، وهو الغاية المقصوى، أو يريدون ذاته بمعروفهم لا رياء ولا سمعة، ولا مكافأة يد، كما قال تعالى: {الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى} [الليل: 18- 20]، {وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} أي: في الدنيا والآخرة.
{وَمَا آتَيْتُم مِّن رِّباً} أي: مال ترابون فيه: {لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ} أي: ليزيد في أموالهم؛ إذ تأخذون فيه أكثر منه: {فَلَا يَرْبُو عِندَ اللَّهِ} أي: لا يزكو ولا ينمو ولا يبارك فيه، بل يمحقه محق ما لا عاقبة له عنده إلا الوبال والنكال، وذكر في تفسيرها معنى آخر، وهو أن يهب الرجل للرجل، أو يهدي له ليعوّضه أكثر مما وهب أو أهدى. فليست تلك الزيادة بحرام، وتسميتها ربا مجاز؛ لأنها سبب الزيادة.
قال ابن كثير: وهذا الصنيع مباح وإن كان لا ثواب فيه، إلا أنه نهى عنه رسول الله صلّى الله عليه وسلم خاصة، قاله الضحاك، واستدل بقوله تعالى: {وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} [المدثر: 6]، أي: لا تعط العطاء، تريد أكثر منه. وقال ابن عباس: الربا رباءان، فربا لا يصح، يعني ربا البيع، وربا لا بأس به، وهو هدية الرجل، يريد فضلها وإضعافها. انتهى.
وأقول: في ذلك كله نظر من وجوه:
الأول- أن هذه الآية شبيهة بآية: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} [البقرة: 276]، وهي في ربا البيع الذي كان فاشياً في أهل مكة حتى صار ملكة راسخة فيهم، امتصوا بها ثروة كثير من البؤساء، مما خرج عن طور الرحمة والشفقة والكمال البشري. فنعى عليهم حالهم، طلبا لتزكيتهم بتوبتهم منه، ثم أكد ذلك في مثل هذه الآية، مبالغةً في الزجر.
الثاني- أن الربا، على ما ذكر، مجاز، والأصل في الإطلاق الحقيقة، إلا لصارف يرشد إليه دليل الشرع، أو العقل، ولا واحد منهما هنا؛ إذ لا موجب له.
الثالث- دعوى أن الهبة المذكورة مباحة، لا بأس بها بعد كونها هي المرادة من الآية بعيدة غاية البعد؛ لأن في أسلوبها من الترهيب والتحذير ما يجعلها في مصاف المحرمات، ودلالة الأسلوب من أدلة التنزيل القوية، كما تقرر في موضعه.
الرابع- زعمُ أن المنهي عنه هو الحضرة النبوية خاصة، لا دليل عليه إلا ظاهر الخطاب، وليس قاطعاً؛ لأن اختصاص الخطاب لا يوجب اختصاص الحكم على التحقيق، لا يقال الأصل وجوب حمل اللفظ على حقيقته، وحملُه على المجاز لا يكون إلا بدليل، وكذا ما يقال إن ثبوت الحكم في غير محل الخطاب يفتقر إلى دليل- لأنا نقول: الأصل في التشريعات العموم، إلا ما قام الدليل القاطع على التخصيص بالتنصيص، وليس منه شيء هنا. وقد عهد في التنزيل تخصيص مراد به التعميم إجماعاً، كآية: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ} [الأحزاب: 1]، وأمثالها.
الخامس- أن في هذا المنهي عنه من إصعاد المرء إلى ذروة المحسنين الأعفّاء، الذين لا يتبعون قلوبهم نفقتهم، ما يبيّن أنه شامل لسائرهم، لما فيه من تربية إرادتهم وتهذيب أخلاقهم. بل لو قيل إن الخطاب له صلوات الله عليه، والمراد غيره، كما قالوه في كثير من الآي- لم يبعد؛ لما تقرر من عصمته ونزاهته عن هذا الخلق، في سيرته الزكية، وحينئذ فالوجه في الآية هو الأول، وعليه المعول. والله أعلم: {وَمَا آتَيْتُم مِّن زَكَاةٍ} أي: مال تتزكون به من رجس الشح، ودنس البخل: {تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} أي: ذوو الأضعاف من الثواب، جمع مُضْعِف، اسم فاعل من أضعف، إذا صار ذا ضعف- بكسرٍ فسكون- بأن يضاف له ثواب ما أعطاه، كأقوى وأيسر، إذا صار ذا قوة ويسار. فهو لصيرورة الفاعل ذا أصله، أو الذين ضعفوا ثوابهم وأموالهم ببركة ما أنفقوا، على أنه من أضعف والهمزة للتعدية، ومفعوله محذوف، وهو ما ذكر.